الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

رضا

بإيدك المكان الضيق يبقى جنة يا رضا  " ـ رضا حارس العقار الجديد القادم من الفيوم إحدى أعرق محافظات مصر فى الفقر ـ هذه الكلمة هى أولى كلمات زوجة عمه التى توسطت له عند مالك العقار ليعمل بوظيفة الحارس فى مقابل 650 جنيه شهرياً بواقع 30 جنيه رسوم شهرية من قاطنى المسكن كل على حدة و على أن يعيش هو و زوجته فى المكان المخصص أسفل السلم أو بمعنى أدق فى بئر السلم و ليست حجرة منفصلة فهو فقط ينفصل عن المدخل بباب ثم درجتين للأسفل نحو الأرضية المغطاة بالأسمنت و الحوائط هى جدران السلم و المدخل أما السقف فيمتلىء بعظام الصرف الصحى و المياه و قضبان الحديد التى تكون شبكة الدور الأرضى و تحمل فوقها الإثنى عشر طابقاً أما المكان المخصص لدورة المياه هو الذى يطلق عليه فى الطوابق الأخرى " منور" و لكنه هنا لا ينير شيئاً و لا تحتمل مساحته أكثر من إثنين من جنس بنى آدم و الكثير من ذوى الأقدام الأربعة .. المكان فى العموم لوحة من الألوان الرمادية  , الأبيض و الأسود المتحرك زاحف أو راكض ـ
و  عندما أبدى رضا إستيائه من المكان جاءه الرد من زوجة عمه " بإيدك المكان الضيق يبقى جنة يا رضا " و فى الحال بدأت هى و زوجته غالية فى الإمساك باللون الأسود قتلاً سواء بالمبيد الحشرى أو " بالشبشب "
تتوالى الأيام فى زخم الساعات المستبدة بين الرضا و القنوط
ـ الحساب 60 جنيه
ـ ده اللى مكتوب فى الورقة
ـ أيوة
ـ عطتنى 50 جنيه بس
ـ روح قولها الدوا بستين جنيه مش خمسين
ـ لسة ها أروح و أعاود تانى ها أدفع أنا الباقى يا رب بس تحاسبنى ما تقولش يبقى لك
 ـ ربنا يسترها عليك
و هكذا مرت الأيام بين طلبات السكان و النظافة العامة للعقار الدائم الظمأ ..بعد عدة أشهر ذهبت غالية لقريتها لتضع مولودها الأول وليد و عادت لشقائها ثانية مع حمل جديد
ـ الواد بيكح يا عمة و جبت له الدوا م الصيدلية خلصو لسة ما صحيش
ـ  خلى جوزك يكشف له فى الوحدة الصبح
ـ ها أروح السوق و أعاود بيه ع الوحدة إن شاء الله
بعد إسبوع
ـ الدكتور قال الواد مش بيصحى هنا م الرطوبة كده ها يضيع منى أقولك أنا مروحة البلد لحد ما يصحى
بعد إسبوع تعود غالية وحدها و تترك وليد ليربيه جده و ترضعه أمها مع اخيها الصغير الذى يكبر وليد بثلاثة أشهر فقط فغالية تزوجت فى الثالثة عشر و كان رضا فى الخامسة عشر بعقد زواج عرفى كما هى العادة فى قرى محافظة الفيوم و عندما اتمت السن القانونى تزوجها رسمى و كان هذا قبل سفره للعمل بالقاهرة و بالطبع كانت العروس فى أوائل أشهر الحمل
و بين مراحل إنتقال رضا من عقار لآخر سعياً وراء الرزق و الحياة الأفضل ينتقل وليد بين مراحل التعليم الإبتدائى و يشب هو و إخوته بين القاهرة و الفيوم فمكان العمل لا يصلح لتنشأة الأطفال و لهذا لا تنتهى مسئولية الجد...
..و بعد نهاية المرحلة الإبتدائية ..
ـ كفاية علام يا سيدى و إشتغل
ـ تشتغل إزاى أبوك قال تكمل علام
ـ ما انى النوبة اللى فاتت سقطت و عدت السنة و بعدين أنى ما ليش روح اكمل كلمه يا سيدى و نشوف
...وافق رضا و عثر على عمل لولده كعامل توصيل فى مغسلة ملابس قريبة من العقار الذى يعمل فيه فتهدأ الأيام و تنسجم داخل وتيرة منتظمة فيقضى الولد مع أبويه أيام العمل و و بقوم بتجميع أربعة ايام إجازة كل شهر ليذهب للقرية عند جده إلى أن ظهرت "ضحى " إبنة الجيران ..كان وليد فى الخامسة عشر و كان أخوها صلاح قد بدأ فى مسامرة أقرانه فتجمعوا عنده يوماً لإصابته بإلتواء فى الكاحل و دخلت ضحى لتضع أكواب الضيافة فتعثرت بأعين وليد و تعانقت أطوار الطفولة بأطوار الحلم بعدها بدأ هو فى متابعة عينيها كلما يحضر لزيارة جده و كانت تصغره بعام واحد و نموها الجسدى مكتمل فهى فقط تنتظر من يطرق الباب
و طرقه وليد و بارك الطرفين هذه الزيجة كما هو العرف و على ان يدخل بها فى حجرة بمنزل جده إلى أن يستطيع توفير مكان خاص لهما
و تمضى ثلاث سنوات رتيبة ..يتوفى الجد و يوفر فيها وليد بعض من تكاليف الحياة التى يتمناها لأسرته الصغيرة التى لم يرزقه الله فيها بالذرية بعد ..
و بعد ان ترقى فى درجات توصيل الطلبات إلى مطعم متواضع إلتقى صلاح بإحدى متعهدى توريد العمالة للخارج فقد قدِم إلى القرية لعرض خدماته الجليلة و تحسين الأوضاع المعيشية لهؤلاء الفقراء..و بالطبع أشرقت أبواب الأمل و طموح الأمثلة بدأ بالقفز لحوار المساء الدائم فهو سيمتلك سيارة مثل فلان و يبنى بيتاً مثل فلان فيقنع صهره بالتضحية بجنيهاته التى توفرت له و السفر معه حيث بلاد اليوروالمثمرة و يعملون فى أى المجالات المتوفرة فالتعب هناك بالعملة الصعبة
...و تمضى متتالية السفر و الغرق و الفقد فلا يهتدى أحد لجثمان وليد و صوت غالية لا يهتدى للنغمات و صوت آخر " إبنك فى الجنة يا رضا "
و أشدك يا ابن بطنى
يا ريح طايرة مع الموجة
يا كتف و قالوا دا سندى
و حملت فرشتك يدى
خفيف الحمل
خفيف النعش ع الأكتاف
أبل التوب من المية
و ريحتك يا حبيب عينى
تطل عليا
و صوتك ف الهوا طاير مع الموجة
يعود الموج
و طيفك صورته ف عنيا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
‏19 نوفمبر، 2012‏،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق